الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وتارة يضاف إلى العباد كما في الفاتحة لكونهم أهل سلوكه وهو المنسوب لهم وهم المارون عليه.الموضع الثامن: من ذكر المنعم عليهم وتمييزهم عن طائفتي الغضب والضلال.فانقسم الناس بحسب معرفة الحق والعمل به إلى هذه الأقسام الثلاثة لأن العبد إما أن يكون عالما بالحق أو جاهلا به والعالم بالحق إما أن يكون عاملا بموجبه أو مخالفا له فهذه أقسام المكلفين لا يخرجون عنها ألبتة فالعالم بالحق العامل به هو المنعم عليه وهو الذي زكى نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح وهو المفلح 91: 9: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} والعالم به المتبع هواه هو المغضوب عليه والجاهل بالحق هو الضال والمغضوب عليه ضال عن هداية العمل والضال مغضوب عليه لضلاله عن العلم الموجب للعمل فكل منهما ضال مغضوب عليه ولكن تارك العمل بالحق بعد معرفته به أولى بوصف الغضب وأحق به ومن هاهنا كان اليهود أحق به وهو متغلظ في حقهم كقوله تعالى في حقهم 2: 90: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} وقال تعالى 5: 60: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} والجاهل بالحق أحق باسم الضلال ومن هنا وصفت النصارى به في قوله تعالى 5: 77: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} فالأولى: في سياق الخطاب مع اليهود والثانية في سياقه مع النصارى وفي الترمذي وصحيح ابن حبان من حديث عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون».ففي ذكر المنعم عليهم وهم من عرف الحق واتبعه والمغضوب عيهم وهم من عرفه واتبع هواه والضالين وهم من جهله ما يستلزم ثبوت الرسالة والنبوة لأن انقسام الناس إلى ذلك هو الواقع المشهود وهذه القسمة إنما أوجبها ثبوت الرسالة.وأضاف النعمة إليه وحذف فاعل الغضب لوجوه.منها: أن النعمة هي الخير والفضل والغضب من باب الانتقام والعدل والرحمة تغلب الغضب فأضاف إلى نفسه أكمل الأمرين وأسبقهما وأقواهما وهذه طريقة القرآن في إسناد الخيرات والنعم إليه وحذف الفاعل في مقابلتهما كقول مؤمني الجن 72: 10: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا}.ومنه قول الخضر في شأن الجدار واليتيمين 18: 82: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} وقال في خرق السفينة 18: 79: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} ثم قال بعد ذلك: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} وتأمل قوله تعالى 2: 187: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} وقوله 5: 3: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} وقوله 4: 23: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} ثم قال 4: 24: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}.وفي تخصيصه لأهل الصراط المستقيم بالنعمة ما دل على أن النعمة المطلقة هي الموجبة للفلاح الدائم وأما مطلق النعمة فعلى المؤمن والكافر فكل الخلق في نعمه وهذا فصل النزاع في مسألة هل لله على الكافر من نعمة أم لا؟فالنعمة المطلقة لأهل الإيمان ومطلق النعمة تكون للمؤمن والكافر كما قال تعالى 14: 34: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُوم كَفَّار}.والنعمة من جنس الإحسان بل هي الإحسان والرب تعالى إحسانه على البر والفاجر والمؤمن والكافر.وأما الإحسان المطلق فللذين اتقوا والذين هم محسنون.الوجه الثاني: أن الله سبحانه هو المنفرد بالنعم 16: 53: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه} فأضيف إليه ما هو منفرد به وإن أضيف إلى غيره فلكونه طريقا ومجرى للنعمة وأما الغضب على أعدائه فلا يختص به تعالى بل ملائكته وأنبياؤه ورسله وأولياؤه يغضبون لغضبه فكان في لفظة: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} بموافقة أوليائه له من الدلالة على تفرده بالإنعام وأن النعمة المطلقة منه وحده هو المنفرد بها ما ليس في لفظة المنعم عليهم.الوجه الثالث: أن في حذف فاعل الغضب من الإشعار بإهانة المغضوب عليه وتحقيره وتصغير شأنه ما ليس في ذكر فاعل النعمة من إكرام المنعم عليه والإشادة بذكره ورفع قدره ما ليس في حذفه فإذا رأيت من قد أكرمه ملك وشرفه ورفع قدره فقلت هذا الذي أكرمه السلطان وخلع عليه وأعطاه ما تمناه كان أبلغ في الثناء والتعظيم من قولك هذا الذي أكرم وخلع عليه وشرف وأعطى.وتأمل سرا بديعا في ذكر السبب والجزاء للطوائف الثلاثة بأوجز لفظ وأخصره فإن الإنعام عليهم يتضمن إنعامه بالهداية التي هي العلم النافع والعمل الصالح وهي الهدى ودين الحق ويتضمن كمال الإنعام بحسن الثواب والجزاء فهذا تمام النعمة ولفظ: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} يتضمن الأمرين.وذكر غضبه على المغضوب عليهم يتضمن أيضا أمرين الجزاء بالغضب الذي موجبه غاية العذاب والهوان والسبب الذي استحقوا به غضبه سبحانه:أحدها: كونه رب العالمين فلا يليق به أن يترك عباده سدى هملا لا يعرفهم ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم وما يضرهم فيهما فهذا هضم للربوبية ونسبة الرب تعالى إلى ما لا يليق به وما قدره حق قدره من نسبه إليه.الثاني: أخذها من اسم {الله} وهو المألوه المعبود ولا سبيل للعباد إلى معرفة عبادته إلا من طريق رسله.الموضع الثالث: من اسمه {الرحمن} فإن رحمته تمنع إهمال عباده وعدم تعريفهم ما ينالون به غاية كما لهم فمن أعطى اسم {الرحمن} حقه عرف أنه متضمن لإرسال الرسل وإنزال الكتب أعظم من تضمنه إنزال الغيث وإنبات الكلأ وإخراج الحب فاقتضاء الرحمة لما تحصل به حياة القلوب والأرواح أعظم من اقتضائها لما تحصل به حياة الأبدان والأشباح لكن المحجوبون إنما أدركوا من هذا الاسم حظ البهائم والدواب وأدرك منه أولو الألباب أمرا وراء ذلك.الموضع الرابع: من ذكر: {يَوْمِ الدِّينِ} فإنه اليوم الذي يدين الله العباد فيه بأعمالهم فيثيبهم على الخيرات ويعاقبهم على المعاصي والسيئات وما كان الله ليعذب أحدا قبل إقامة الحجة عليه والحجة إنما قامت برسله وكتبه وبهم استحق الثواب والعقاب وبهم قام سوق يوم الدين وسيق الأبرار إلى النعيم والفجار إلى الجحيم.الموضع الخامس: من قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُد} فإن ما يعبد به الرب تعالى لا يكون إلا على ما يحبه ويرضاه وعبادته وهي شكره وحبه وخشيته فطرى ومعقول للعقول السليمة لكن طريق التعبد وما يعبد به لا سبيل إلى معرفته إلا برسله وبيانهم وفي هذا بيان أن إرسال الرسل أمر مستقر في العقول يستحيل تعطيل العالم عنه كما يستحيل تعطيله عن الصانع فمن أنكر الرسول فقد أنكر المرسل ولم يؤمن به ولهذا جعل الله سبحانه الكفر برسله كفرا به.الموضع السادس: من قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فالهداية هي البيان والدلالة ثم التوفيق والإلهام وهو بعد البيان والدلالة ولا سبيل إلى البيان والدلالة إلا من جهة الرسل فإذا حصل البيان والدلالة والتعريف ترتب عليه هداية التوفيق وجعل الإيمان في القلب وتحبيبه إليه وتزيينه في القلب وجعله مؤثرا له راضيا به راغبا فيه.وهما هدايتان مستقلتان لا يحصل الفلاح إلا بهما وهما متضمنتان تعريف مالم نعلمه من الحق تفصيلا وإجمالا وإلهامنا له وجعلنا مريدين لإتباعه ظاهرا وباطنا ثم خلق القدرة لنا على القيام بموجب الهدى بالقول والعمل والعزم ثم إدامة ذلك لنا وتثبيتنا عليه إلى الوفاة.ومن هنا يعلم اضطرار العبد إلى سؤال هذه الدعوة فوق كل ضرورة وبطلان قول من يقول إذا كنا مهتدين فكيف نسأل الهداية فإن المجهول لنا من الحق أضعاف المعلوم وما لا نريد فعله تهاونا وكسلا مثل ما نريده أو أكثر منه أو دونه وما لا نقدر عليه مما نريده كذلك وما نعرف جملته ولا نهتدي لتفاصيله فأمر يفوت الحصر ونحن محتاجون إلى الهداية التامة فمن كملت له هذه الأمور كان سؤال الهداية له سؤال التثبيت والدوام.وللهداية مرتبة أخرى وهي آخر مراتبها وهي الهداية يوم القيامة إلى طريق الجنة وهو الصرط الموصل إليها فمن هدى في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه هدى هناك إلى الصراط المستقيم الموصل إلى جنته ودار ثوابه وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم وعلى قدر سيره على هذه الصراط يكون سيره على ذاك الصراط فمنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كالطرف ومنهم من يمر كالريح ومنهم من يمر كشد الركاب ومنهم من يسعى سعيا ومنهم من يمشي مشيا ومنهم من يحبوا حبوا ومنهم المخدوش المسلم ومنهم المكردس في النار فلينظر العبد سيره على ذلك الصراط من سيره على هذا حذو القذة بالقذة جزاء وفاقا: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.ولينظر الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم فإنها الكلاليب التي بجنبتي ذاك الصراط تخطفه وتعوقه عن المرور عليه فإن كثرت هنا وقويت فكذلك هي هناك: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}.فسؤال الهداية متضمن لحصول كل خير والسلامة من كل شر.الموضع السابع: من معرفة نفس المسئول وهو الصراط المستقيم ولا تكون الطريق صراطا حتى تتضمن خمسة أمور الاستقامة والإيصال إلى المقصود والقرب وسعته للمارين عليه وتعينه طريقا للمقصود ولا يخفى تضمن الصراط المستقيم لهذه الأمور الخمسة.فوصفه بالاستقامة يتضمن قربه لأن الخط المستقيم هو أقرب خط فاصل فإنه أرحم وأرأف من أن يغضب بلا جناية منهم ولا ضلال فكأن الغضب عليهم مستلزم لضلالهم وذكر الضالين مستلزم لغضبه عليهم وعقابه لهم فإن من ضل استحق العقوبة التي هي موجب ضلاله وغضب الله عليه.فاستلزم وصف كل واحد من الطوائف الثلاث للسبب والجزاء أبين استلزام واقتضاه أكمل اقتضاء في غاية الإيجاز والبيان والفصاحة مع ذكر الفاعل في أهل السعادة وحذفة في أهل الغضب وإسناد الفعل إلى السبب في أهل الضلال.وتأمل المقابلة بين الهداية والنعمة والغضب والضلال فذكر: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} و{الضَّالِّينَ} في مقابلة المهتدين المنعم عليهم وهذا كثير في القرآن يقرن بين الضلال والشقاء وبين الهدى والفلاح فالثاني كقوله 2: 4: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقوله: {أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} والأول كقوله تعالى 54: 47: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} وقوله 2: 7: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَة وَلَهُمْ عَذَاب عَظِيم} وقد جمع سبحانه بين الأمور الأربعة في قوله 20: 123: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} فهذا الهدى والسعادة ثم قال: [20: 124]: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} فذكر الضلال والشقاء، فالهدى والسعادة متلازمان والضلال والشقاء متلازمان.
.فصل ذكر: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} مفردا معرفا: وذكر: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} مفردا معرفا تعريفين: تعريفا باللام وتعريفا بالإضافة وذلك يفيد تعينه واختصاصه وأنه صراط واحد وأما طرق أهل الغضب والضلال فإنه سبحانه يجمعها ويفردها كقوله: [6: 153]: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}.فوحد لفظ: {الصِّرَاطَ} و: {سَبِيلِهِ} وجمع: {السُّبُل} المخالفة له وقال ابن مسعود: خط لنا رسول الله خطا وقال هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وعن يساره وقال «هذه سبل على كل سبيل شيطان يدعو إليه ثم قرأ قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون}».
|